علمتني “الثورة” التونسية!!

كلما تقدمنا في العمر وتراكمت تجاربنا ثم نظرنا خلفنا في قناعاتنا وأفكارنا السابقة نعجب من أحلامنا واتساعها!
فكنا في جلسة واحدة نزيل الحدود ونوحد الأمة ونبني دولة الإسلام العظيمة والخلافة الراشدة وكنا نرى الأمر يسيرا أو على الأقل نرجح حصوله في زماننا….. و”الإسلام هو الحل”!
لم تكن أحلامنا تعترف بواقع ولا تعرف حقيقة الأمور ولا تقدر أن الأمر أعقد بكثير جدا من أحلامنا البريئة. لم نكن نعلم أيضا أن كثيرا مما كنا ندعو إليه على أنه الاسلام، أو الواجب، أو ما لا يتم الواجب إلا به، هو في الحقيقته خلاف ذلك، أو ليس كذلك!
أذكر وأنا تلميذ في الباكالوريا في إحدى الأماسي بجزيرة قرقنة دار بيني وبين أحد طلبة الماجستير في الاقتصاد في جامعة السربون حوار ساخن عن موضوع الاقتصاد الإسلامي وعن موارد الدولة في الاسلام، فكان يحاججني أن الأمر مازال يحتاج كثيرا من التنظير والجهد والعمل وليس الأمر كما أظن بأن الزكاة كفيلة بحل كل مشاكل الاقتصاد كما يقول بعض المشايخ.
وكنت حين أحرج في النقاش أحاجج صاحبنا بأن الإسلاميين عندهم كتاب “إقتصادنا” للمفكر العراقي الشيعي محمد باقر الصدر، ولم أكن قد قرأت من ذلك الكتاب أكثر من بعض فصول أو ورقات لم أفهمها!… ولكن “الكبار” أشادوا بالكتاب!!
وكان كتاب “فلسفتنا” لنفس الكاتب مرجعي الأساسي الذي أجادل به أستاذ الفلسفة الماركسي المتطرف في ماركسيته وعدائه للدين!
ثم كبرنا وظهرت لنا طوباوية أحلامنا وعرفنا أننا لم نكن نعرف!…. وظهرت لنا “معرفة” جديدة ملخصها أننا أمم متخلفة ووالغة في الفساد وأن السبب الرئيسي والمباشر لذلك هو الحكام الظلمة والطغاة المستبدين، وأنه بمجرد زوالهم وتمكن الشعوب من حريتها بعد التخلص منهم سنقطع مع التخلف والفساد وننطلق نحو النهوض حين نختار حكامنا! كما يحدث في الغرب الذي نعيش فيه… والديمقراطية هي الحل!!
ثم حصلت “الثورة” التونسية وأسقطت رأس النظام وعانقت الآمال والأحلام عنان السماء، ثم تهاوت أنظمة أخرى فاعتقدنا أنه لا رجعة وأن زمن النهوض العربي والإسلامي قد بدأ وأصبحت الأحلام واقعا!
ثم برزت التحديات من كل ركن وزاوية وعافسناها و”تداهسنا” معها! ….
ثم كبرنا أكثر وعرفنا من تجربتنا التونسية عدة مسائل كنا لا نراها رؤية حقيقية منها أننا:

  • عرفنا أن الدولة الحديثة عبارة عن شبكة متداخلة من السلاسل والحلق، ومن شبه المستحيل كسرها أو تفكيكها أو استبدالها والاستغناء عنها تماما بانتفاضة أو ثورة:
    وزارات وإدارات ومؤسسات وجيش وشرطة ومخابرات ودواوين وشركات واقتصاد ونقل ومطارات وسياسة وعلاقات دولية وتعليم وجامعات ومدارس ومناهج، وعملة صعبة وتوريد وتصدير وديون خارجية ورواتب شهرية واتحادات عمالية مسيسة … تحديات ومشاكل بلا نهاية!
  • عرفنا أن حصول الشعب على “حق” اختيار الحاكم أو حتى عزله عبر الانتخاب لا يعني شيئا إن كان الحاكم المختار ليس له “شوكة”، أي السلاح والسلطة الحقيقية للدولة! وهي المعبر عنها مجازا ب”الأنياب والمخالب”!
    وخير مثال على ذلك، التسريب الذي نشر من حوار بين الرئيس محمد مرسي رحمه الله وقائد الجيش أو رئيس الأركان. فكان مرسي يتكلم معه باستضعاف ومسكنة لإقناعه بإجراء ما وجب اتخاذه ويقول له: “معليش اسمع مني واعتبرني أخوك الصغير” والقائد العسكري يرد بكل عنجهية “ما اقدرش يا محمد” دون أدب ولا احترام لرئيسه المنتخب، والمفروض أن العسكر ليس لهم حق نقاش القائد أو الاعتراض على أوامره! …. وما كان لمرسي أن يستمر في خداع نفسه وناخبيه، فقد كان ذلك عنوانا واضحا لما أتى بعده!
  • عرفنا أنه كما أن “السلطة المطلقة مفسدة مطلقة” فكذلك عند ضعف الدولة أو ضعف الحاكم المنتخب تصبح “الحرية المطلقة مفسدة مطلقة”! مع غياب مسؤولية يحققها الوعي وتفرضها سلطة القانون!
  • عرفنا أن كلمة “الديمقراطية” المكتوبة في اللافتات أو أسماء الأحزاب أو حتى الدول لا علاقة لها بالحقيقة وواقع الأمر! فكثير من الدول الاستبدادية والأحزاب الشيوعية وصفت نفسها بالديمقراطية!
    وحتى كلمة “الوطد” تعني “الوطنيون الديمقراطيون” بالألف واللام – “زادة” – يعني هم وحدهم وطنيون ووحدهم ديمقراطيون!!
  • عرفنا أن مساندة القوى الدولية الكبرى لحق الشعوب في تقرير مصيرها وحقها في الحرية والديمقراطية واختيار حكامها مجرد شعارات وكذب لا علاقة له بالحقيقة، وإنما هي “أسلحة” يبتزون بها من يخالفهم أو يحاول أن يغرد خارج سربهم!
    والدكتاتورية والانقلاب على إرادة الشعوب أمر محمود عندهم إذا قام به من يخدم مصالحهم التوسعية ونفوذهم وهيمنتهم! … تماما كانقلاب السيسي!!
  • عرفنا أن الديمقراطية ليست للبلدان العربية والإسلامية لأنها تأتي في الغالب بحكام لا يكونون وكلاء على مصالح الغرب، ولذلك تجوز إزالتهم والانقلاب عليهم وكل الوسائل في ذلك مشروعة، من تحريك للأجهزة السرية، و”الدولة “العميقة، أو الانقلاب المباشر وحرق المعارضين في الساحات، أو تحريك أذرعهم في الأقليات والإعلام و”الثقافة” و”الفن” و”الشذوذ” للضغط والابتزاز!!
  • عرفنا أن الدولة القطرية صممت لتكون منزوعة السيادة وفاقدة لقدرة التحدي والصمود أمام الهزات الداخلية والأعاصير الخارجية!
    -عرفنا أن ثورة لا تملك قيادة وبرنامجا بديلا ومعها “قوى صلبة” وإعلام، يصعب أن تخرج من الدائرة المفرغة والتفاعل مع الطلبات المجحفة ببرنامج قوامه “كل يوم وقسمه”! …. حتى تجد نفسها تصارع الريح في فراغ … حينها يصفق الجمهور لمن يأتي فيسد الفراغ … إلي حين!
  • عرفنا ما عرف الشابي من قبل أنه “لا رأي للحق الضعيف، ولا صدى…. والرأي ، رأي القاهر الغلاب!
    و”لا عدل إلا إن تعادلت القوى… وتصادم الإرهاب بالإرهاب”!
    وكما يقول الشاعر السوداني ” عرفنا أن حد الظلم بين قذائف المدفع”!
    هذه بعض تداعيات أو خلجات أنفس،
    وكل “ثورة” وأنتم طيبون!
    طه البعزاوي
    28 ديسمبر 2024

عن alhiwar_tkmy7z

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *